الأربعاء، 21 يونيو 2023

شربل

تواصل إنساني مأزوم في عصر ثورة الاتصالات

شربل بتاريخ عدد التعليقات : 0

ثورة الاتصالات

إذا شئنا أن نحدّد الطابع المميز لهذه المرحلة من تطور الإنسانية، لرأينا أنّ القفزات التي أنجزتها تكنولوجيا الاتصال في العالم كله، وبخاصة في الغرب الرأسمالي، هي أهم ما يتصف به عالمنا الراهن. لقد أشارت التقارير والإحصاءات الدولية إلى الانتشار الواسع والسريع لأجهزة التلفزيون والهاتف والفيديو والراديو والإنترنت التي باتت تغطي العالم المتمدن بكامله.

 

ولكن رغم كل هذه الثورة التي حققتها تكنولوجيا الاتصال، نجد أن الإنسان المعاصر ينكفئ تدريجاً إلى ذاته، وأن الحوار الإنساني ينقطع أو يكاد. فالعلاقات الحميمة بين البشر تتراجع، وعزلة الإنسان المعاصر تتعمّق، غربته تشتد، وسط عالم يهدده بالنفي الدائم، عالم يصارع كي لا ينسحق في مواجهة تحدياته المتزايدة.

 

أجل، إن عالمنا، رغم كل التقدم في العلم والإنتاج وتقنيات التواصل، يبدو الآن أكثر وحشة من أي وقت مضى. إنه عالم يخلو من الودّ ليغرق في "علاقات السوق"، عالم يفرغ من الصداقة التي تنسحب الى الماضي وكأنها من القيم البائدة التي تنتمي الى التاريخ لا الى العصر. أليس هذا ما يمكن استنتاجه من إقبال الغرب بالذات، حيث الثورة الاتصالية حققت أكبر إنجازاتها، على اقتناء الحيوانات الأليفة لتعويض التراجع في العلاقات الإنسانية؟ أليس هذا أيضاً ما يدل اليه ارتفاع وتزايد معدلات الانتحار والطلاق والاستهلاك المسعور لأدوية الأمراض العقلية ومضادات الانهيار العصبي في العالم المتقدم، رغم كل المظاهر الباهرة للثراء والرفاهية؟


إن الحقيقة التي تؤكدها هذه الوقائع ما هي في نظرنا إلا النتيجة المأسوية لتدهور العلاقات الإنسانية وانتكاسها، وفشل تكنولوجيا الاتصال في تحقيق تواصل حقيقي بين الناس. ولعلّ من الأمثلة الصارخة على هذا الفشل ما لحظه عالم الاجتماع العربي حليم بركات، لدى زيارته للولايات المتحدة، من وحدة الإنسان الغربي ووحشته، حيث الناس يسيرون في الشوارع على الأغلب كل وحده تماماً، حتى في نيويورك ذات الازدحام الهائل لا يتحدث الناس مع بعضهم البعض كثيراً، بينما عدد غير قليل من الأفراد يتحدثون مع أنفسهم بصوت مسموع.


ولنا في ما أورده الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مثل واقعي معبّر عن عزلة الإنسان الغربي وفشل التواصل الإنساني في الغرب، رغم كثافة الاختلاط الظاهرية. ففي كتابه "الغثيان"، يعبّر الفيلسوف عن شعوره وسط حشد هائل من الناس بالقول: "إنها لصحراء شاسعة من البشر"، وما ذلك إلا لإحساسه بانهيار الروابط الحميمة بين البشر، وغياب التفاعل الروحي في ما بينهم، حتى لكأنهم أشبه بحبّات رمال لا يجمعها سوى الوجود المكاني".

تواصل إنساني مأزوم في عصر ثورة الاتصالات
تقييمات المشاركة : تواصل إنساني مأزوم في عصر ثورة الاتصالات 9 على 10 مرتكز على 10 ratings. 9 تقييمات القراء.

مواضيع قد تهمك

تعليق