على مدار ثلاثة عقود لم تعرف دول غربية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا مشكلة تضخم كبرى؛ فمعدلات التضخم بقيت تحت 5% في كل الأعوام تقريبًا بين 1990-2020 في جميع هذه الدول.
بينما في جانب آخر من العالم وفي دولٍ مثل مصر وتركيا ترتفع معدلات التضخم عن المعهود في الدول المتقدمة كثيرًا، فبينما لم تشهد مصر أي معدل تضخم أقل من 5% في الفترة نفسها؛ باستثناء ما بين 1997-2003، لم تشهد تركيا أي معدل تضخم أقل من 6% في العقود الثلاثة الماضية.ولكن دول العالم كلها، المتقدمة منها والنامية، حاليًا في مرمى معدلات التضخم المرتفعة؛ والتي وصلت في الدول المتقدمة إلى معدلات غير مسبوقة منذ الثمانينيات، فقد وصلت إلى أعلى من 8% في الولايات المتحدة الأمريكية في يونيو (حزيران) 2022، وكذلك إلى 8.1% في دول الاتحاد الأوروبي في مايو (أيار) 2022، وأخيرًا 9% في المملكة المتحدة في يونيو (حزيران) 2022.
ويعد الفيدرالي الأمريكي في النشرة التي أصدرها في يوليو (تموز) 2011 أن معدل التضخم الصحي يجب أن يبقى حول 2%، فحتى معدلات 3-5% التي شهدتها الولايات المتحدة كثيرًا خلال العقود الماضية، تعد تضخمًا غير صحي، ولكنها لا تمثل المشكلة نفسها التي تمثلها المعدلات الأعلى، التي تحققها الدول المتقدمة اليوم بالطبع.
ويعني هذا أن مشكلة التضخم الحالية مختلفة عن أي مشكلة تضخم حصلت في العالم خلال العقود الأربعة الماضية، ومنذ نهاية ما يُعرف باسم «التضخم العظيم»، والذي حصل بين عامي 1965-1982، وأدى إلى إعادة التفكير في علم الاقتصاد، وتحديدًا في آلية عمل البنوك المركزية.
يُعرَّف التضخم عادةً بالنتيجة لا بالتأثير أو الآلية؛ فهو الانخفاض في القوة الشرائية لعملةٍ ما، مقاسة بارتفاع معدلات الأسعار، سواءً احتسبنا جميع الأسعار في اقتصادٍ ما، أو أسعار سلةٍ من السلع والخدمات على وجه التحديد.
يُعرَّف التضخم عادةً بالنتيجة لا بالتأثير أو الآلية؛ فهو الانخفاض في القوة الشرائية لعملةٍ ما، مقاسة بارتفاع معدلات الأسعار، سواءً احتسبنا جميع الأسعار في اقتصادٍ ما، أو أسعار سلةٍ من السلع والخدمات على وجه التحديد.
كما في المثال المشهور عن التضخم الذي حصل في إسبانيا خلال القرن السادس عشر؛ فإن السبب الأساسي للتضخم يعزى بالدرجة الأولى للنمو في النقود في أيدي الناس في اقتصادٍ ما، وزيادة النقود بدرجة أكبر من زيادة الإنتاج أو القدرة على الإنتاج تعني في النهاية – نظريًّا – أن النقود ستفقد قيمتها تدريجيًّا حتى تصبح الكمية الأكبر من النقود اليوم تساوي قيمة النقود نفسها قبل بدء النمو الكبير والمفاجئ في النقود.
في القصة المتعلقة بإسبانيا؛ يعزى التضخم إلى اكتشاف جبال من الفضة في البيرو والمكسيك، ثم نقلها إلى إسبانيا؛ ما عنى زيادة كبيرة في النقود الفضية، دون أن يرتفع الإنتاج في إسبانيا بشكلٍ متناسبٍ، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم في البلاد.
وحتى الآن تبقى المسألة كما هي بالنسبة لكثيرٍ من الاقتصاديين؛ فنمو عرض النقود في اقتصادٍ ما يبقى هو السبب الأساسي في حصول التضخم واستمراره؛ طبقًا لواحدة من أكثر النظريات تأثيرًا في الاقتصاد اليوم؛ ألا وهي «النظرية النقدية»، والتي ترى التضخم ظاهرةً متعلقةً بالنقود بشكلٍ أساسي.
ويدافع الاقتصادي الأمريكي «فريدريك ميشكين» في كتاب «اقتصاديات النقود، المصارف والأسواق المالية- Economics of Money, Banking, and Financial Markets» عن هذه النظرة في الاقتصاد، ويهاجم أي حجج قد تناقضها بناءً على تحليل منحنيات العرض والطلب.
خلاصة كلام «ميشكين» تدور حول أن عوامل أخرى غير نمو عرض النقود قد تدفع فعلًا لارتفاع الأسعار، لكن هذه العوامل لا تدفع لارتفاع الأسعار إلا بشكلٍ مؤقتٍ، ثم يعود الاقتصاد إلى وضعه الطبيعي عن طريق قوى السوق، أما التضخم فهو ارتفاع مستمر في الأسعار، وليس صدمة مفاجِئة ومؤقتة يسببها ارتفاع الأجور وأسعار المواد الأولية (ارتفاع تكلفة الإنتاج=جانب العرض) أو ارتفاعًا مؤقتًا في الإنفاق الحكومي مثلًا (ارتفاع على جانب الطلب).
وطبقا لـ«ميشكين»، والنظرية النقدية بشكلٍ عامٍّ؛ وتحديدًا أهم رموزها الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان، فإن التضخم المستمر لا يحصل في اقتصادٍ ما إلا نتيجة لارتفاع عرض النقود بشكلٍ أكبر من ارتفاع القابلية للإنتاج، ويحصل ذلك عندما تستخدم البنوك المركزية سياسة توسعية تضخ المزيد من النقود في الاقتصاد عن طريق أدواتها النقدية.
لكن هذه النظرية ليست الوحيدة في علم الاقتصاد، فهناك نظريات أخرى تدور حول الدور الأساسي للعرض والطلب على السلع والخدمات في الاقتصاد بوصفها سببًا أساسيًّا للتضخم، ولنحاول شرح الحالة الأكثر شيوعًا للتضخم بناء على وجهتي النظر المذكورتين.
تعليق